الخميس. نوفمبر 21st, 2024

في كلمتها امام مجلس المحافظين في صندوق النقد الدولي قالت كريستالينا جورجييفا مدير عام الصندوق، كنت أتأمل التغير الجذري الذي انتاب العالم على مدار العام الماضي، و قمت بزيارة لبريتون وودز بولاية نيوهامبشير، حيث وقَّع 44 رجلا اتفاقية تأسيس الصندوق في عام 1944. لقد واجه مؤسسونا مهمتين جسيمتين: معالجة الدمار الواقع الذي أحدثته الحرب؛ وكذلك إرساء الأساس لعالم ينعم بمزيد من السلم والرخاء بعد أن تضع الحرب أوزارها.

وفي ختام مؤتمر التوقيع، عبر جون مينارد كينز تعبيرا دقيقا عما يعنيه تبني التعاون الدولي بوصفه أملا للعالم حين قال: “إذا استطعنا الاستمرار …فسيعني هذا أن الأخوة الإنسانية قد أصبحت أكثر من مجرد شعار”.

وإذ نتطلع إلى الترحيب بأندورا التي ستكون البلد العضو التسعين بعد المائة في صندوق النقد الدولي، نجد أن عمل الصندوق يقف شاهدا على قيم التعاون والتضامن اللذين تقوم عليهما رابطة الأخوة والأختية في الإنسانية.

إننا نواجه اليوم “لحظة” بريتون وودز جديدة. جائحة كبدتنا بالفعل خسائر في الأرواح تتجاوز المليون نسمة. كارثة اقتصادية ستتسبب في تقليص الاقتصاد العالمي بنسبة 4,4% هذا العام وانتزاع ما يقدر بنحو 11 تريليون دولار من الناتج في العام القادم. كذلك نشهد يأسا إنسانيا يفوق الوصف في مواجهة الاضطراب العنيف والفقر المتزايد للمرة الأولى منذ عقود.

ومرة أخرى، نواجه مهمتين جسيمتين: مكافحة الأزمة اليوم – وكذلك بناء غد أفضل.

إننا على علم بالإجراءات التي يجب اتخاذها على الفور. فالتعافي الاقتصادي الدائم لن يتسنى تحقيقه إلا إذا هزمنا الجائحة. ويجب أن يستمر إعطاء أولوية للإجراءات الصحية – وأحثكم على دعم إنتاج وتوزيع العلاجات واللقاحات الفعالة لضمان وصولها إلى كل البلدان.

وأحثكم أيضا على مواصلة دعم العاملين ومؤسسات الأعمال إلى أن يتحقق الخروج بشكل دائم من الأزمة الصحية.

وقد رأينا إجراءات مالية عالمية بقيمة 12 مليار دولار أمريكي. وتوسعت البنوك المركزية الكبرى في ميزانياتها العمومية بما يعادل 7,5 تريليون دولار أمريكي. وأدت هذه الإجراءات المتزامنة إلى منع حلقة الآثار المرتدة المدمرة التي شهدناها في الأزمات السابقة بين الاقتصاد الكلي والقطاع المالي.

غير أن كل البلدان تقريبا تكابد الضرر، ولا سيما اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ورغم أن النظام المصرفي العالمي كان يتمتع بهوامش وقائية مرتفعة من رأس المال والسيولة عند بدء الأزمة، فإن هناك مجموعة من البنوك الضعيفة في كثير من الأسواق الصاعدة. وعلينا أن نتخذ إجراءات لمنع تراكم المخاطر المالية على المدى المتوسط.

إننا نواجه ما أسميته مسار صعود طويل أمام الاقتصاد العالمي: رحلة تسلق شاقة في درب غير ممهد يخيم عليه عدم اليقين – وتكتنفه مخاطر النكسات.

ولكنها رحلة تسلق صاعدة. وستتاح لنا فرصة معالجة بعض المشكلات المزمنة – انخفاض الإنتاجية، وبطء النمو، وارتفاع عدم المساواة، وأزمة مناخية تلوح في الأفق. ونستطيع القيام بما هو أفضل من إعادة بناء عالم ما قبل الجائحة – بإمكاننا البناء قدما نحو عالم أكثر صلابة واستدامة وشمولا للجميع.

كيف؟ أرى ثلاث حتميات في هذا المسار:

أولا، السياسات الاقتصادية الصحيحة: ما كان يَصْدُق على بريتون وودز لا يزال يَصْدُق اليوم – فالسياسات الاقتصادية الكلية الرشيدة والمؤسسات القوية عاملان ضروريان للنمو والوظائف ومستويات المعيشة الأفضل.

وليس من حل واحد يناسب الجميع – فيجب تطويع السياسات لما يلائم احتياجات كل بلد على حدة. ولا يزال من الضروري استمرار الدعم لفترة ما – ومن شأن إلغائه مبكرا أن يلحق ضررا جسيما وغير مبرر بالاقتصاد. وستحدِّد كل مرحلة في الأزمة الشكل المناسب لهذا الدعم، بحيث يكون أوسع نطاقا في المراحل المبكرة بوجه عام وأكثر تركيزا على أهداف محددة مع بدء التعافي.

ومن شأن الأطر القوية متوسطة الأجل للسياسة النقدية وسياستي المالية العامة والقطاع المالي، وكذلك الإصلاحات الداعمة للتجارة والتنافسية والإنتاجية، أن تساعد على خلق الثقة اللازمة لحركة السياسات الآن، مع بناء الصلابة الضرورية للمستقبل في آن واحد.

ويتضمن هذا المراقبة الدقيقة للمخاطر الناشئة عن ارتفاع الدين العام. ونحن نتوقع أن يشهد عام 2021 ارتفاعا كبيرا في مستويات الدين – إلى حوالي 125% من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة، و 65% من إجمالي الناتج المحلي في الأسواق الصاعدة؛ و 50% من إجمالي الناتج المحلي في البلدان منخفضة الدخل.

ويقدم الصندوق تخفيفا لأعباء ديون أفقر بلدانه الأعضاء، ونحن، مع البنك الدولي، ندعم تمديد مجموعة العشرين لفترة سريان “مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين”.

وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي إعادة هيكلة الدين دون إبطاء في الحالات التي يخرج فيها عن حدود الاستدامة. وينبغي أن نتحرك نحو زيادة شفافية الدين وتعزيز التنسيق بين الدائنين. وأشعر بالتفاؤل إزاء مناقشات مجموعة العشرين حول إطار مشترك لتسوية الديون السيادية، وحول دعوتنا إلى تحسين تصميم عمليات تسوية الدين السيادي، بما في ذلك مشاركة القطاع الخاص.

ونحن موجودون لمعاونة بلداننا الأعضاء – داعمين لسياساتها.

ويجب أن تكون كل السياسات لصالح الناس – وتلك هي الحتمية الثانية في رأيي.

فحتى نجني الثمار الكاملة للسياسة الاقتصادية السليمة، يجب أن نستثمر أكثر في البشر. ويعني هذا حماية الفئات الضعيفة، كما يعني أيضا تعزيز رأس المال البشري والمادي ليكونا مرتكَزا للنمو والصلابة.

وقد أكدت جائحة كوفيد-19 أهمية النظم الصحية القوية.

ويتطلب تزايد عدم المساواة والتغير التكنولوجي السريع نظما قوية للتعليم والتدريب – لزيادة الفرص والحد من التفاوتات.

والتعجيل بتحقيق المساواة بين الجنسين يمكن أن يُحْدِث تغييرا جذريا في قواعد اللعبة العالمية. فبالنسبة للبلدان الأكثر اتساما بعدم المساواة، يمكن أن يؤدي سد الفجوة بين الجنسين إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي بمتوسط يبلغ 35%.

والاستثمار في شبابنا هو استثمار في مستقبلنا. وهم يحتاجون إلى الحصول على الرعاية الصحية والتعليم، وكذلك خدمات الإنترنت – لأن تلك الخدمات بالذات هي بوابتهم للنفاذ إلى الاقتصاد الرقمي – وهو أمر بالغ الأهمية للنمو والتنمية في المستقبل.

ومن شأن التوسع في إتاحة خدمات الإنترنت في إفريقيا جنوب الصحراء لنسبة 10% إضافية من السكان أن يحقق زيادة في نمو نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بما يصل إلى 4 نقاط مئوية.

والرقمنة تساعد أيضا في تحقيق الإدماج المالي كأداة قوية للمساهمة في التغلب على الفقر.

ومثلما أظهرت الجائحة بالفعل أنه لم يعد بوسعنا إغفال الإجراءات الوقائية الصحية، فإنه لم يعد بوسعنا أيضا إغفال تغير المناخ– وتلك هي الحتمية الثالثة في رأيي.

إننا نركز على تغير المناخ لأنه عامل مؤثر على الاقتصاد الكلي، بما يشكله من تهديدات عميقة للنمو والرخاء. وهو أيضا عامل مؤثر على الأفراد، ومؤثر على كوكب الأرض.

ففي العقد الأخير، أسفرت الكوارث المتعلقة بالمناخ عن أضرار مباشرة تعادل قيمتها الكلية حوالي 1,3 تريليون دولار أمريكي. وإذا كانت الأزمة الصحية لا تروق لنا، فلن تروق لنا الأزمة المناخية مثقال ذرة.

وتشير أبحاث الصندوق إلى أن المزيج الصحيح من الاستثمارات الخضراء وأسعار الكربون الأعلى يمكن أن يقودنا نحو مستوى انبعاثات صفري بحلول عام 2050 وأن يساعد على خلق ملايين الوظائف الجديدة.

إن أمامنا فرصة تاريخية ليس فقط لبناء عالم أكثر خضرة – بل أكثر رخاء وغنىً بالوظائف أيضا. وفي ظل انخفاض أسعار الفائدة، يمكن للاستثمارات الصحيحة اليوم أن تجني عائدا قدره أربعة أضعاف غدا: تجنب خسائر المستقبل، وتحفيز المكاسب الاقتصادية، وحماية الأرواح، وتعميم المنافع الاجتماعية والبيئية على الجميع.

وفي الصندوق، نعمل بلا كلل لدعم تحقيق تعافٍ دائم – وكذلك مستقبل يقوم على ركيزة صلبة بينما تتكيف البلدان مع التحولات الهيكلية التي جاء بها تغير المناخ والتسارع الرقمي وبزوغ اقتصاد المعرفة.

ومنذ بدء الجائحة، تعهدنا بأكثر من 100 مليار دولار – ولا يزال لدينا قدر كبير من الموارد ضمن طاقتنا الإقراضية البالغة تريليون دولار أمريكي.

وسنواصل إيلاء اهتمام خاص للاحتياجات العاجلة لدى الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل – وخاصة الدول الصغيرة والهشة، لمساعدتها في دفع مقابل خدمات الأطباء وأطقم التمريض وحماية أضعف الفئات السكانية وأضعف الأجزاء في اقتصاداتها.

ولم يتسنّ لنا القيام بهذا التحرك غير المسبوق إلا بفضل الدعم السخي من بلداننا الأعضاء. وتؤدي مضاعفة موارد “الاتفاقات الجديدة للاقتراض” وتنفيذ جولة جديدة من اتفاقات الاقتراض الثنائية إلى الحفاظ على هذه الذخيرة المالية. وقد بادرت بلداننا الأعضاء بتقديم مساهمات ضرورية أيضا لتمويل “الصندوق الاستئماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون” و”الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر”.

وبفضل هذه المساهمات، تمكنا من دعم بلداننا الأعضاء منخفضة الدخل عن طريق تخفيف أعباء الديون، وزيادة الإقراض الميسر بمقدار ثلاثة أضعاف. ونتواصل حاليا مع البلدان الأعضاء لإعطاء دفعة أخرى لطاقة الإقراض الميسر، وتطويع أدواتنا المستخدمة في الإقراض، وزيادة الدعم الموجه لتنمية القدرات.

وقد كان أداء خبراء الصندوق، الذين يواصلون العمل ليل نهار، أداءً رائعا في هذه الأزمة. وأتوجه لهم ولفريقي في الإدارة العليا بأسمى آيات الشكر.

وأُعرب عن عميق تقديري لمديرينا التنفيذيين – فقد كانوا مساندين في كل خطوة من الطريق على مدار الستة أشهر الماضية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *