الجمعة. مارس 29th, 2024

قالت كريستالينا جورجييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي في ي احتفالية التكنولوجيا المالية في سنغافورة ان 2020 كان عاما بالغ الصعوبة. فقد سببت الجائحة معاناة هائلة. ووقع جانب كبير من الأضرار الاقتصادية على كاهل الفئات الأكثر هشاشة، في البلدان الغنية والفقيرة لى السواء.

غير أن هناك بعض النقاط المضيئة. فأعمال الأطقم التمريضية والطبية البطولية تنقذ الأرواح. والعاملون في القطاعات الضرورية يحافظون على إمدادات الكهرباء والمياه وعلى أرفف المحال عامرة بالسلع.

وكثيرون غيرهم حافظوا على استمرار عمل مؤسسات الأعمال – كالعاملين في صناعة التكنولوجيا. لقد أحدثتم تغييرا عميقا في طرق العمل والتفاعل والعيش في حياتنا اليومية. لقد جعلتم المستقبل الرقمي عند أطراف أصابعنا – وعلى أعتاب أبوابنا.

واسمحوا لي أن أرصد رؤية لهذا المستقبل، والأركان الأربعة الأساسية اللازمة لبنائه.

تخيلوا معي صانعة أثاث – حِرفيَّة ماهرة – تعمل في مصنع بتايلند. ويضرب الركود ضربته، فتفقد عملها. ثم تُرسل إليها إعانة البطالة عبر الهاتف، فتبدأ ورشتها الخاصة وتبيع إنتاجها محليا.

هذه الحِرفيَّة تؤدي المدفوعات وتتلقاها عبر جهاز محمول. وتختار إتاحة بيانات مدفوعاتها للاطلاع، مما يسمح لها بالحصول على قرض من خلال شبكة الإنترنت، وتعيين عاملين، وتنمية مشروعها التجاري. وفي أحد الأيام تتلقى رسالة يسأل كاتبها عما إذا كانت تشحن منتجاتها إلى الخارج.

وهناك منصة رقمية تقوم بمعالجة مدفوعاتها من الخارج بتكلفة منخفضة. وتوفر لها التأمين والادخار وخيارات لاستثمار ودائعها، مما يجعل سبل الرزق المتاحة لها أكثر مرونة.

لم يكن لذلك أن يتحقق حتى منذ عشر سنوات.

إنها قصة تنم عن قوة الدافع الإنساني والإبداع البشري …

قصة تتحدث عن ثورة في المدفوعات تمحو المسافات المادية؛ وتولد البيانات – التي تمثل الذهب الجديد ومن ثم فإنها غالبا هي الضمان الجديد. قصة تتحدث عن نظم المدفوعات ذات التكلفة المنخفضة والمتاحة على نطاق واسع؛ التي تشكل جزءا من حياتنا الرقمية في سلاسة ويسر.

ومع تغير الطريقة التي نؤدي بها المدفوعات، يتغير عالمنا. فبإمكاننا أن نتيح الخدمات المالية لعدد 1,7 مليار شخص بالغ ممن لا يتعاملون مع البنوك حتى الآن، وأن نساعد عددا أكبر كثيرا من الأشخاص ممن ينتمون إلى الفئات الضعيفة الذين يدفعون حاليا رسوما مرتفعة.

كذلك يجري إعادة تشكيل الصناعة المصرفية والمالية تبعا للبيانات والأتمتة والتحليلات التي تتم على نحو آني. وأخيرا، فإن الابتكارات في مجال المدفوعات من شأنها تغيير النظام النقدي الدولي – أي تغيير الطرق التي نجري بها التعاملات عبر الحدود، ونحصل بها على الأصول الأجنبية، ونتبادل العملات، ونحدد بها أسعار السلع.

والمدفوعات الرقمية ليست قصرا على أصحاب الدراية الواسعة بالتكنولوجيا – ذلك أن لها انعكاسات هائلة على العالم بأسره.

ومن ثم يتعين أن نخطو على هذا المسار بشجاعة – وحذر. علينا أن نضمن تطوير نظم المدفوعات لتفي باحتياجات المستخدمين مع الحفاظ على الأمان والصلابة. هذا فيما يتعلق بالمستوى الجزئي. أما على المستوى الكلي، فينبغي أن نعمل على إيجاد قطاع مالي ونظام نقدي دولي يتسمان بالكفاءة والموثوقية، والعدالة والشمول، بالإضافة إلى الديناميكية.

وينبني المستقبل الرقمي لهذه الحِرفيَّة على الأركان الأساسية التالية: (1) ابتكارات القطاع الخاص؛ و(2) مشاركة القطاع العام؛ و(3) الأطر التنظيمية والقانونية؛ و(4) التعاون الدولي.

وللنظر الآن في كل ركن منها.

1- ابتكارات القطاع الخاص

ساعدت ابتكارات القطاع الخاص أناسا كثرا. لنفكر مثلاً في الحسابات المصرفية التي ندخر فيها، والبطاقات التي نستخدمها في الدفع. أو الأموال الإلكترونية التي تتداولها الحِرفيَّة صاحبة حكايتنا.

ولا يزال الكثيرون يستخدمون النقد، غير أن أعدادهم يمكن تخفيضها بسرعة: لننظر إلى السويد، حيث أصبحت نسبة البالغين الذين لا يزالون يستخدمون النقد 10% فقط من السكان، بعد أن كانت 40% منذ عشر سنوات. وفي نفس الفترة، زادت حسابات الأموال الإلكترونية في كينيا زيادة أسية من 12 مليونا إلى 61 مليون حساب – أي أكثر من عدد السكان.   

والقطاع الخاص هو الأقدر على قياس احتياجات الأفراد ومؤسسات الأعمال، وتقديم المنتجات والخدمات المتنوعة التي يحتاجونها، وتحمل المخاطر الضرورية للابتكار.

غير أننا يجب أن نضمن ألا تتحول هذه المخاطر إلى مخاطر يتحملها المستخدم النهائي أو النظام المالي. ويجب أن نتجنب المزالق الأخرى – كالقوة الاحتكارية أو قصور الخدمات المتاحة للفئات الهشة.

ولذلك، نحتاج إلى الأركان الأساسية الثلاثة الأخرى.

2- مشاركة القطاع العام

ثم تأتي مشاركة القطاع العام، لتقديم هوية رقمية يمكن التحقق منها، وبنية تحتية للاتصالات، وأموال من البنك المركزي، وغير ذلك من الضرورات.

وتسمح الهوية الرقمية للحِرفية صاحبة قصتنا بالاشتراك في خدمات مالية جديدة. وهي أحد شروط الشمول المالي.

والشرط الآخر هو إتاحة خدمات الإنترنت – فلن تنجح قصتنا إلا إذا كانت هذه الخدمات متاحة لبطلتها الحِرفيَّة. لكن قرابة نصف سكان العالم لا تصل إليهم خدمات الإنترنت، بما في ذلك 75% من إفريقيا جنوب الصحراء وحوالي 70% من السكان جنوب آسيا. ونجد الصورة معكوسة في أمريكا الشمالية، حيث يحصل 75% على هذه الخدمات.

والصندوق يشجع بقوة الاستثمار في البنية التحتية الآن، كجزء من جهود التعافي بعد جائحة كوفيد-19. وأفضل السبل في هذا الصدد هو إعطاء دفعة متزامنة للاستثمار العام. فإذا تحركت البلدان معا، يمكنها أن تحقق أكثر مما يحققه البلد الواحد بما يتجاوز الثلثين أو أكثر. ويمكنها أيضا جذب استثمارات خاصة بالغة الأهمية.

وبالتأكيد، تظل أموال البنك المركزي – في صورتها التقليدية من أوراق نقدية وعملات معدنية واحتياطيات – أمرا ضروريا. فأحد مقاييس الاستقرار الأساسية بالنسبة للحِرفيَّة التايلندية في قصتنا هو قدرتها على تحويل أي الأموال الرقمية التي تتلقاها إلى عملة محلية عند الطلب.

كذلك تساعدها عملة البنك المركزي على تلقي المدفوعات في شكل أموال إلكترونية صادرة عن مختلف مقدمي خدمات الدفع. فعلى غرار أي لغة مشتركة، تسمح أموال البنك المركزي لجهة تقديم خدمات الدفع بأداء مدفوعات لطرف آخر. وبناء على هذه الركيزة، يمكن لكل شركة من شركات التكنولوجيا المالية أن تطرح خدماتها الخاصة وتقوم بتطويرها. وتمنح قابلية التشغيل البيني أجنحة للابتكار والتنوع في طرق الدفع.

فكيف ينبغي لأموال البنك المركزي أن تتطور في العصر الرقمي؟ ومع ظهور جهات جديدة من مقدمي خدمات الدفع، هل ستتاح أموال البنك المركزي لها أيضا؟ وهل سيتم استحداث نسخة رقمية من الأوراق النقدية والعملات المعدنية؟ الواقع أن كثيرا من البلدان بدأت تنظر في إمكانية ذلك بالفعل.

وبينما قد يتغير شكل أموال البنك المركزي، فلا يُتوقع أن تتغير وظيفتها. إذ يُنتظَر أن تظل ركيزة يقوم عليها استقرار أشكال الأموال الأخرى، وأن تجعل تطورها وتنوعها أمرا ممكنا.

3- الأطر التنظيمية والقانونية

والركن الأساسي الثالث مهم على نفس القدر من الأهمية – وهو الأطر التنظيمية والقانونية القوية. فمن المنتظر أن تسمح للابتكار والشركات البادئة بالازدهار مع تحقيق الأهداف الحيوية – أي ضمان الحماية والخصوصية للمستهلكين، ومكافحة غسل الأموال والجرائم الأخرى، وتوفير الاستقرار والصلابة للجميع.

ويمثل الوضوح التنظيمي مطلبا ضروريا، كما ينطوي على تحديات كبيرة في ظل التطور السريع للتكنولوجيا والمنتجات ذات الصلة. ولا تكمن صعوبة بدء نشاط تجاري في كثرة النماذج التي يتعين استيفاؤها. بل إن العقبة الحقيقية هي عدم معرفة عدد النماذج الأخرى التي ستكون مطلوبة. وسيسأل الداخلون الجدد إلى السوق: ما هي القواعد التي أخضع لها؟ وهل سيعتبر المُنْتَج الذي أقدمه وديعة أم تأمينا أم نظام دفع أم شيئا آخر؟

وحسب التقليد الذي أرساه لي كوان يو، تواصل حكومة سنغافورة الابتكار – ولديها قانون جديد واعد للمدفوعات. فهي تسعى لتعريف أدوات الدفع الرقمية، واعتماد منهج يقوم على النشاط والمخاطر في تنظيم المدفوعات.

وإذا تم ذلك بالطريقة الصحيحة، فسوف يحقق تكافؤ الفرص للداخلين الجدد: نفس النشاط، نفس المخاطر … نفس القواعد. غير أن تقييم هذه المخاطر يثير أسئلة جديدة. فعلى سبيل المثال، قدمت الحِرفيَّة بطلة قصتنا بيانات المدفوعات بدلا من الضمان. ولكن هل القروض القائمة على بيانات وتحليلات أدق تنطوي على مخاطر أقل؟ هل ينبغي أن يكون ما تدفعه أقل؟

وينبغي إتاحة الموارد اللازمة للهيئات التشريعية والتنظيمية حتى تنجح وتظل سباقة. وسيتعين أن تكون هذه الهيئات بعيدة النظر ومتعاونة نظرا للتشعب الكبير الذي تتسم به المدفوعات الجديدة: بنوك مركزية ووزارات مالية تعمل مع هيئات مكافحة الاحتكار، وجماعات الحفاظ على الخصوصية، وهيئات حماية البيانات، وجهات إنفاذ القانون، والمجتمع المدني، والمدافعون عن حقوق المستهلكين، على سبيل المثال لا الحصر.

4- التعاون الدولي

وفي الوقت الذي تعبر فيه الأموال الحدود، يجب أيضا أن تعبر معها جهودنا التنظيمية. ويقودني هذا إلى الركن الأساسي الأخير، وهو التعاون الدولي، بما في ذلك تيسير المدفوعات الدولية والتعامل مع التداعيات المترتبة عليها.

فهل ستتمكن الحِرفيَّة* بطلة قصتنا من إرسال الأموال عبر الحدود بنفس السهولة التي نرسل بها الرسائل النصية؟ أم سيكون عليها دفع رسوم بمتوسط 7%*، مثلما يفعل اليوم 800 مليون شخص يعتمدون على تحويلات العاملين في الخارج؟

غير أن إرسال الأموال أكثر تعقيدا من إرسال رسالة نصية. فهو يتطلب معايير للتكنولوجيا بين الأموال الرقمية، والمعاملة التنظيمية والقانونية المشتركة، وأنظمة تحديد الهوية الموثوقة عبر الحدود. وقد قدم مؤخرا مجلس الاستقرار المالي، بدعم من الصندوق، خارطة طريق لتعزيز المدفوعات العابرة للحدود. غير أن تنفيذها لا يزال يتطلب الكثير من العمل.

والتعاون أساسي أيضا لمعالجة التداعيات. فمع زيادة انتشار النقود الرقمية، ستمتد الآثار لتصل إلى مختلف أنحاء العالم. وتتضمن هذه الآثار مبادلة العملات المحلية بعملات أجنبية أكثر جاذبية، وتقلص فعالية السياسة النقدية، والالتفاف على قيود الحساب الرأسمالي.

بل إن التداعيات يمكن أن تكون أبعد أثرا. ففي ظل بعض الظروف، يمكن أن تؤثر النقود الرقمية الجديدة على النظام النقدي الدولي.

وقد أنشأت بلدان العالم صندوق النقد الدولي لمساعدتها في إرشاد النظام النقدي الدولي وجعله قاطرة للنمو من أجل الجميع. وفي الوقت الذي زادت فيه مخاطر التباعد بين الفقراء والأغنياء، ندرك أن المسؤولية لم تكن قط أكبر مما هي عليه اليوم.

واليوم، نقف على أهبة الاستعداد للمساعدة في إيجاد نظام نقدي أكثر صلابة – نظام أكثر شمولا للجميع، وأكثر ذكاء وخضرة.

وكما قالت إيلين جونسون سيرليف، رئيسة ليبيريا السابقة الحاصلة على جائزة نوبل: “إن لم ترعبك أحلامك، فاعلم أنها غير كبيرة بالقدر الكافي.

إن الشركات العالمية، ورواد الأعمال البادئة، والحِرفيَّة بطلة قصتنا، لديهم أحلام كبيرة. وما نحتاج إليه هو أن نجعل ثورة المدفوعات تعمل لصالح الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *