قالت كريستالينا جورجييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي، أمام الاجتماع الوزاري الإلكتروني لمنتدى المالية العامة للدول العربية
إننا نواصل مواجهة أزمة لا نظير لها، الأمر الذي يجعل تعاوننا الوثيق ضروريا – ومن ثم فإن تركيز هذا المنتدى على الدعم الحيوي اللازم في هذا السياق هو أمر منطقي تماما.
وقد أوضح العالم العربي العظيم ابن خلدون كيف يمكن للتماسك الاجتماعي أن يدفع الناس نحو التقدم. ويمكنه أن يكون مصدر إلهام لنا اليوم ونحن نعمل على تحقيق تعافٍ شامل للجميع وغني بفرص العمل عبر البلدان العربية وعلى مستوى العالم.
إذن، ما هي الآفاق المتوقعة حاليا؟ لا يزال العالم في مواجهة أسوأ ركود منذ حقبة “الكساد الكبير”، حيث يُتوقع أن يصل النمو العالمي إلى معدل 4,4% بالسالب في عام 2020. وبالنسبة للعام القادم، نتوقع حدوث تعافٍ جزئي وغير متوازن يصل بالنمو إلى 5,2%.
وبالنسبة للعالم العربي، نتوقع انكماشا بنسبة 5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020، يعقبه عودة إلى النمو في 2021 بمعدل 3,2%. ولا يُتوقع أن تصل المنطقة إلى مستوى إجمالي الناتج المحلي الذي كان سائدا في عام 2019 حتى نهاية 2022، كما أن الخسائر تتجاوز 900 مليار دولار حتى نهاية عام 2025، مقارنةً بتوقعات ما قبل الجائحة. ويساهم في هذه التنبؤات الأثر المجمع لتباطؤ الطلب على النفط، ومعوقات التجارة والسياحة، وبالطبع الإغلاق العام.
ولذلك فبالنسبة للمنطقة والعالم، ستكون هذه رحلة صعود طويلة – شاقة ومحفوفة بعدم اليقين ومعرضة للنكسات. وتشير البيانات الواردة إلى تباطؤ الزخم في البلدان التي تشهد فيها الجائحة طفرة جديدة. ولكن هناك تقدما ملحوظا فيما يتعلق باللقاحات، ونحن نواصل الدعوة لإتاحة فرص الحصول عليها أمام كل بلدان العالم.
ويمكننا أيضا البناء على الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت على صعيدي المالية العامة والسياسة النقدية لإرساء أساس صلب يرتكز عليه الاقتصاد العالمي.
ومن المهم مواصلة العمل في هذا الصدد، لأن الأثر الاقتصادي المترتب على الأزمة يمكن أن يكون عميقا على المدى المتوسط. ذلك أن تَعَرُّض المنطقة الكبير للمخاطر في قطاع الخدمات الأشد تضررا، والضغوط الواقعة على الميزانيات العمومية للشركات، والقدرة المحدودة على العمل من المنزل، والاعتماد على تحويلات العاملين في الخارج، يمكن لها جميعا أن تؤثر سلبا على مسيرة التعافي. ومن شأن تعطُّل الأنشطة التعليمية أن يحد من إنتاجية الطلاب في المستقبل.
فكيف يمكن لصناع السياسات أن يقاوموا الأزمة؟ مرة أخرى، يمكن أن نتعلم من التاريخ. فبالبناء على تقاليد التضامن العربية، كان ابن خلدون من أوائل من كتبوا بالتفصيل عن دور الحكومة في الاقتصاد. وتظهر هذه الروح في التحرك السريع والقوي الذي اتخذته البلدان العربية بالفعل من خلال سياساتها لدعم مواطنيها وتخفيف الآثار المباشرة للأزمة:
فقد وفرت حِزَم الإجراءات المالية ودعم السيولة الحماية المطلوبة للدخول والأرزاق، وللقطاع المالي. وتضمنت الإجراءات المبتكرة في هذا السياق تأجيل الضرائب مع إجراءات إدارية أخرى، والتحويلات النقدية، وتقديم الدعم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
كذلك استفادت الأسر من هذا الدعم. فالمغرب، على سبيل المثال، نفذ حلولا تكنولوجية مبتكرة، بما في ذلك المدفوعات عبر الأجهزة المحمولة، للوصول إلى العاملين في القطاع غير الرسمي.
وسارعت مصر بتوسيع نطاق برنامج المدفوعات النقدية وزيادة الشمول المالي من خلال خدمات رقمية لإجراء المعاملات المالية إلكترونيا.
وقامت تونس بزيادة الإعانات، وتوسيع نطاقها، وتحسين قدرتها على توجيه المعونة للفئات الأشد احتياجا لها.
والسؤال الكبير هو: كيف ندفع مقابل هذه البرامج وغيرها مما يمثل شريان حياة رئيسيا؟ وكيف نحافظ عليها؟
أولا، تعبئة مزيد من الإيرادات على المدى المتوسط. ومن شأن زيادة الامتثال الضريبي، وزيادة تصاعدية الضرائب، ودعم إدارة الإيرادات المساعدة في تحقيق ذلك.
ففي مصر والمغرب والأردن والسودان، على سبيل المثال، تم تعزيز إدارة الإيرادات لتحسين الامتثال وتعبئة الإيرادات.
ثم تأتي زيادة كفاءة الإنفاق. ويتضمن هذا إلغاء دعم الوقود تدريجيا على غرار ما تقوم به عدة دول في مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى ترشيد فاتورة أجور القطاع العام، والعمل، قدر الإمكان، على إعادة توجيه المزيد من الإنفاق في حدود الميزانيات القائمة والحد من الإنفاق على غير الأولويات.
والصندوق على أهبة الاستعداد لمد يد المساعدة. فنحن نشجع البلدان التي تتحمل أعباء ديون غير مستدامة أن تتعامل مع هذه المشكلة مبكرا وبشكل حاسم. وتحت قيادة المملكة العربية السعودية، اتفقت مجموعة العشرين منذ فترة وجيزة على إطار مشترك لمعالجة الديون بخلاف مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الديون. وهذه خطوة لها أهميتها، إلى جانب استمرارنا في تشجيع المقرضين والمانحين على دعم البلدان منخفضة الدخل والدول الهشة.
وقد عزز الصندوق تركيزه على مساعدة البلدان الأعضاء على تحسين شبكات الأمان الاجتماعي وجعلها مستدامة ماليا، إلى جانب سياسات أخرى طويلة الأجل تدعم تحقيق النمو الاحتوائي.
وأثناء الجائحة، قمنا بمائة وخمس وأربعين بعثة مساعدة فنية للبلدان العربية، بما في ذلك البعثات التي تمت من خلال مركزنا للمساعدة الفنية الذي يقع مقره في بيروت، ومركزنا للاقتصاد والتمويل في الكويت.
وقدمنا دعما لسبعة بلدان عربية بقيمة 14 مليار دولار أمريكي أثناء الأزمة – بزيادة قدرها 47% في إقراض الصندوق للمنطقة. كذلك قدمنا تخفيفا لأعباء خدمة الديون بقيمة 42 مليون دولار أمريكي لثلاثة بلدان عربية من خلال “الصندوق الاستئماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون”.
ونحن على استعداد لتقديم المزيد.
وختاما، أعود إلى حيث بدأت – إلى عمل ابن خلدون. فلم يكن ابن خلدون مفكرا يتطلع إلى العالم من برج عاجي، بل هو رجل شغل وظائف حكومية متعددة، وأعمل فيها رؤاه الرائعة حيال التحديات الاقتصادية والاجتماعية في زمنه.
وتقتضي مسؤوليتنا اليوم التأكد من ترجمة أفكارنا إلى سياسات تُحَسِّن حياة الناس. وأتمنى لمنتدى المالية العامة للدول العربية كل النجاح في هذا الصدد.