«بركة» تسعينية ترك الزمن أَثرًا على ملامحها.. وتجاعيدًا، محفورة على وجهها، تحكي حكاية عمر قاسي مر، وسنين عاشتها وحيدة.. ذاقت مرارة الحياة، فلم يثمر زواجها عن أبناء، وتوفي زوجها خادم المسجد منذ أعوام عديدة. كانت العمة بركة.. محبوبة، تتودد إليها النسوة، ويشتكين أحوالهن.. لم تبخل عليهن يومًا بالنصيحة، قلبها كان صندوقًا للأسرار، سكبت خبرتها، في حجر نسوة الحي، فكن ينصتن لها، لأنها تنصحنهن عن ظهر حب،
سر بركة.. في تعجب أهل الحي !!
من أين يأتيها الطعام؟ وظل هذا لغزًا؟؟ لا أحد يعرف عنها شَيْئًا، وعادة.. تجلس أمام الدار ويجلس أبناء الحي تحت قدميها.. ويضعون رؤوسهم في حجرها، توزع عليهم الحلوى.. و تحكي لهم الحكايات، حكاية تلو حكاية، يسألوها مئة سؤال، وتضحك وتجيب.. ولا تمل. كان يغمرهم حبها..
تشدو جارتها «حنة» بصوتها العذب يوميًا، وترسم الحنة لبنات الحي، و جهها بشوش، لا تفارقه البسمة، و جارتها من جهة اليسار
«سوداء».. مكروهة.. لأنها كانت تتلصص، يوميًا على الأسرار لتفشيها، وفي ذات يوم.. خاطبها فكرها الأسود، من أين لبركة بهذا الخير كله؟ فاختبأت حتى العتمة.. بجوار الدار عند جذع شجرة،
فرأت.. شيخ الجامع محمود.. يتلفت يَمِينًا وَيَسَارًا ليطمئن أن الطريق لدار العمة آمن، و خال من المارة، وأشار على عجلٍ لزوجته «عطاء» أن تسرع، وبدت خائفة أن يراها أحد، تخفي وجهها، تحمل الطعام على رأسها في مشنة، مغطاه بمنديل،
قالت سويداء: والله لأفضحن الأمر، فجأة.. ظهرت من خلفها الجارة «حنة» وأدركت نواياها.. وما تنوي صنيعه أمسكت.. بها وأوجعتها ضرْبًا، وكانت حنة ممتلئة الجسد.. قالت: والله إن أعدت صنيعك أو أسأت للعمة بركة لأقعدن عليك حتي أسويك أَرْضًا، فقامت «سويداء» مسرعة.. وأغلقت عليها دارها وهي تردد: لا.. لا.. لن أكررها،
أشارت حنة لعطاء أن تسرع وتدخل حِمْلِهَا، دخلت على عجل أطعمت العمة ووضعت قبلة على رأسها ونظفت الدار وتركت لها ما يكفيها.. كانت بركة ترفع يديها.. و تدعو اللهم زد عطاء ومحمود عطاءا فوق العطاء، وفى ذات يوم.. لم تجلس العمة على باب الدار !! كعادتها.. ففتحت النسوة باب الدار، فوجدتها ملقاه على الأرض، فأسرعن بنقلها لمشفى قريب،
وعندما استردت وعيها، طلبت أن تتحدث مع الشيخ محمود، فجاء على عجل، قالت.. أدام الله عليك الخير، ورزقك البركة، فوضع قبلة على رأسها.. قالت.. أسلمك داري أمانة على أن تجعله دَارًا لتحفيظ القرآن، وفارقت الحياة.. وبعد أن ودعها أهل الحي لمثواها الأخير،
اجتمع الشيخ محمود و سكان الحي وهدموا الدار القديمة وبنوا داراً جديدة كتبوا عليها دار «العمة بركة» لتحفيظ القرآن،
وعاد الشيخ محمود متعبًا من يوم شاق، فجاءته العمة في المنام تبتسم، أبشر.. أن الله رزقك بركة، فأستيقظ مستبشرًا، فأخبرته زوجته أنها حامل، بعد انتظار دام عشرة أعوام دون أمل، فسجد لله وحمده، وقال سأسميها بركة، فتبسمت عطاء، وأشرق وجهها، وقالت: نعم حبيبتي بركة.
”أحسن يحسن الله إليك“
قال تعالي:
{ هَلۡ جَزَاءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا الاحسان }
نجلاء محجوب